تقاس الديمقراطية في التجارب العريقة بمدى التصاقها بقضايا الناس الذين يختارون المرشحين وفق برامجهم، فمن كان برنامجه حاملا لأفكار وبرامج أقرب لمشاغلهم اختاروه دون غيره.وهكذا فالديمقراطية بلغة بسيطة وسهلة هي الوسيلة التي تسمح للناس بفرض إرادتهم وجعل مختلف المؤسسات معبّرة عنهم، والديمقراطية بهذا المعنى لا علاقة لها بالشعارات والمزايدات والشطحات السياسية التي نسمعها صباح مساء في فضائنا العربي.ومثار هذا الحديث هو الانتخابات البلدية "المحلية" التي شهدتها تونس وتابعنا بعض تفاصيلها من خلال زيارتنا لمجموعة من مراكز الاقتراع في العاصمة تونس ومحيطها بمشاركة مجموعة من الملاحظين الأجانب الذين جاؤوا ليقفوا على الأجواء العامة التي تدور فيها، بالإضافة إلى متابعتنا لبعض الحملات الانتخابية في الأيام التي سبقت الانتخابات.وقد خرجنا من خلال زياراتنا هذه بمجموعة من الملاحظات:أولا: لعل أبرز ما يجلب نظر أي ملاحظ هو الإقبال الكثيف والحماسة التي يبديها الناخب في مختلف المراكز التي زرنا للإدلاء بصوته بحرية تامة، وهو مشهد يوحي بما هو أبعد، فالانتخاب هنا ليس عملية روتينية يذهب إليها الناخب مكرها خوفا من هذه الجهة أو مجاملة لهذا الحزب أو ذاك الشخص، إنه قناعة شخصية تستمد وهجها من إيمان الأفراد بأن الديمقراطية التونسية ليست ملتقى للمزايدات والوعود الكاذبة، بل بوابة حقيقية لإصلاح واقعهم وتطويره، وأن عملية الانتخاب لا تقودهم إلى اختيار مرشحيهم فحسب بل إلى اختيار الطريق الأسلم الذي يضمن تحقيق مصالحهم، ذلك أنه لا قيمة لديمقراطية تنهض على أحلام الناخبين ثم تدير لهم الظهر ولا تلتفت إليهم إلا مع الانتخابات الموالية.فالديمقراطية هنا مرتبطة بالمصالح، ولذلك فهي ناجعة ومصداقيتها كبيرة، وبالتالي يجوز أن نصفها بالديمقراطية الشعبية من جانب أنها مرتبطة بالشعب ومشاغله ومن جانب آخر لأنها تستنفر مختلف الطاقات المحلية سواء للترشح أو للانتخاب ومن ثمة التأثير بشكل مباشر في النتائج وفي شرعية المجالس المنتخبة وتمثيلها لمطالب مواطني المنطقة البلدية المعنية.ثانيا: كثيرا ما تتشكى المعارضات العربية من انحياز الإدارة إلى الحزب الحاكم وكونها تتحكم في العملية الانتخابية ما يجعل النتائج معلومة مسبّقا، ولأنه "ليس من سمع كمن رأى"، فإن ما شاهدته وما شاهده الملاحظون الأجانب الذين التقيت بهم وتحادثنا حول سير العملية الانتخابية في المراكز التي زاروها يقول شيئا واحدا: إن الإدارة كانت الأكثر حرصا على أن يمارس الناخب حقه بحرية تامة ويختار القائمة التي يريد أيا كان الحزب الذي يدعمها.يضاف إلى ذلك أن هذه الإدارة كانت توجّه دعوات يومية عبر التلفزيون والإذاعات والصحف المختلفة تدعو من خلالها المواطن إلى استلام بطاقته الانتخابية وتوضّح له طريقة الانتخاب وشروطه وتحثه على المشاركة، وهذا الحرص كان أحد العوامل الرئيسية التي تقف وراء ظاهرة الإقبال الكبير على مراكز الانتخاب، وهي ظاهرة يمكن القول إنها ظاهرة تونسية بامتياز إذ لم يسبق لنا أن شاهدنا هذا الزخم حتى في الانتخابات البريطانية.ثالثا: التعددية في هذه الانتخابات حملت أكثر من وجه، ففضلا عن التنافس بين الأحزاب، وهو تنافس أكد مرة أخرى أن الديمقراطية في تونس صارت أمرا واقعا ولم تعد مجرد نوايا ما يجعلها أبلغ رد على الضجة التي يفتعلها البعض ممن امتهنوا المزايدة والتصريحات النارية وفبركة الأخبار، نجد أن القائمات المقدمة متعددة من حيث نوعية المرشحين، فهناك نسب للشباب وأخرى للمرأة تماشيا مع التوجهات الكبرى التي أسس لها الرئيس زين العابدين بن علي والتي تدعو إلى تشريك الشباب والمرأة والكفاءات الوطنية في مختلف المؤسسات وطنيا ومحليا بقطع النظر عن انتمائها الحزبي ومواقفها السياسية.إن الأجواء الإيجابية التي جرت فيها الانتخابات البلدية في تونس، والتي من المنتظر أن تُعلن نتائجها صباح اليوم، تحمل رسالة مهمة إلى كل العرب مفادها أن الديمقراطية في الوطن العربي ممكنة وليست مستحيلة، وأن نتائجها لن تكون كارثية كما يّصوّرها بعض الخائفين والمترددين، لكن من المهم العمل على تحقيق شروطها، وأن تكون متدرجة وهادئة، وألا تحرق المراحل، وأن تتزامن مع النجاحات الاقتصادية والاجتماعية فلا قيمة لديمقراطية مع الفقر والبطالة والأمية والتطرف، وهي ظواهر تمكنت تونس من محاصرتها عبر مجموعة من الخطط والبرامج الفعّالة.(العرب اونلاين)
======================================