طبول الحرب الدينية

السبت، سبتمبر 18، 2010

فائق فهيم - ما أعلنه القس الأمريكي تيري جونز في فلوريدا عن نيته إحراق نسخ من المصحف الشريف، وما تواتر عن تراجعه إذا ما قرر المسلمون بناء مركزهم الديني بعيدا عن موقع الأبراج، يدق ناقوسا خطيرا ويفتح الباب أمام الأحقاد المغلفة برداء ديني.
وإزاء خطورة ما دعا إليه جونز، استنكر الرئيس باراك أوباما تصرفه وطالبه بأن ''ينصت إلى ملائكة الخير ويبتعد عن أفكاره بحرق المصحف الشريف''. وقال أوباما ''إن ما ينادي به القس جونز يتنافى مع القيم الأمريكية، فبلادنا نهضت وقامت على فكرة الحرية والتسامح الديني''.
وقد انضم إلى الرئيس الجنرال ديفيد بترايوس الذي قال إن ذلك يعرض حياة جنودنا في العالم الإسلامي للخطر، وقالت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية ''أسعدني اتساع نطاق موجة الاستنكار لهذه الدعوة وأكثر ما أبهجني إدانة الشعب الأمريكي لها، فهي عملية معيبة مخجلة ينبغي ألا تصدر عن رجال الدين''.
وجاء رد الفعل الإسلامي سريعا، وأعلنت جماعات أصولية إسلامية أنها ستشرع في إحراق الأعلام الأمريكية فور بدء الإحراق للمصحف الشريف، وأعلن أنجيم شوداري ـــ أحد الزعماء المسلمين في بريطانيا ـــ أنه يتمتع بدعم زعماء المسلمين في بلجيكا وسويسرا وإندونيسيا وغيرها. كما تلقى جونز 100 تهديد بالقتل مما اضطره إلى حمل مسدس.
أخطر ما في القضية أن تيري جونز هو رأس حربة لجماعة من المتعصبين بدأوا في التوافد إلى كنيسته مع ترديد الشعارات العدائية للإسلام، وأعلنوا أن احتفالهم بذكرى 11 من أيلول (سبتمبر) 2001 لن يكتمل إلا بإحراق المصاحف، والجدير بالاهتمام هو تلك اللغة التي استخدمها جونز وأنصاره، التي لم تتوقف بمجرد إحجامهم عن نواياهم القبيحة. يردد جونز تساؤلات عجيبة مثل ''متى نتوقف؟ كم من مرة خضعنا وانسحبنا أمامهم ـــ يقصد المسلمين؟ كم عدد مرات تراجعنا؟''، ''يجب علينا أن نقف شامخين بدلا من التراجع المستمر''، ربما آن الأوان لإرسال رسالة إلى الإسلام الأصولي بأننا لن نسمح باستمرار سلوكهم''.
هذه العبارات التحريضية تفتح باب التساؤل: هل تبدو في الأفق نُذر حرب دينية؟ إننا نذكر مذبحة الإسكندرية سنة 1881، التي جاءت نتيجة اعتداء مكاري مصري على مالطي مسيحي، وتدخلت بريطانيا سنة 1882 باحتلال مصر ونصرة المسيحيين والأجانب. أما إذا عدنا بالتاريخ إلى الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش الإسبانية فسنقرأ الأهوال التي قام بها المسيحيون ضد المسلمين عندما أرادوا أن يحولوهم عن الإسلام في إسبانيا، وحينما وطئوا أرض الإسلام واستمروا فيها مائة وثلاثة أعوام حتى تم طردهم نهائيا على يد محمد بن قلاوون، وذلك بعد سلسلة هزائم بدأت بحطين على يد صلاح الدين، ثم المنصورة على يد الصالح أيوب وعز الدين أيبك والظاهر بيبرس. إنها نغمة جديدة قديمة، أن يدعو الدعاة بدعاوى دينية لتحقيق مطامع دنيوية بشرية. ولماذا لم يستنكر هذا القس المقدام ما فعله الأمريكيون بالمسلمين في العراق؟، ولماذا لم يستنكر جوانتانامو ولا أبو غريب ولا المذابح التي أنهت حياة آلاف الشيوخ والأطفال والمدنيين؟ وأين كان تدينه وإنسانيته عندما انهالت الصواريخ والنابالم على رؤوس العزل والضعفاء بحجة القضاء على الدكتاتورية وتثبيت أقدام الديمقراطية وفتح نوافذ العراق لنسمات الحرية؟ إن كل ما يجري هو توظيف جديد للدين المسيحي ليلعب لعبة فشلت مرات ومرات.. فشلت عندما هُزم الصليبيون، وعندما انهارت محاكم التفتيش، وعندما فشلت بعثات التنصير المكثفة في النيل من مسلمي المنطقة العربية والإسلامية مع الاعتراف بنجاح جزئي لهم في بعض جهات إفريقيا وأمريكا الجنوبية.
إن الغرب يعشق رفع شعار الدين، والدين بريء تماما. ربما كان السبب أن التاريخ الغربي في أوروبا وأمريكا حافل بالصراع والصدام بين المذاهب المختلفة، فقد استمرت حروب الكاثوليك والبروتستانت مئات السنين. وعندما نادى كلفن ومارتن لوثر بالمذهب البروتستانتي لمحاربة صكوك الغفران والفساد الكنسي الذي اتهموا به الكاثوليك، قامت معارك ثقافية وحربية، وأُعدمت الملكة ماري الكاثوليكية على يد إليزابيث البروتستانتية، وما زالت إيرلندا الشمالية والجنوبية مركزا للصراع المذهبي الديني تحت مظلة الصليب. ولا أبالغ إذا قلت إن معظم الحروب الأوروبية التي تمثل 70 في المائة من حروب العالم قامت بسبب الأديان والصراعات الدينية، لأن رجل الدين لم يكن يحب أن يبقى على الهامش، بل كان الكرادلة والأساقفة ينفثون اللهب في النار لضمان استمرار الاشتعال، ومن ثم الحصول على مكاسب ومواقع مهمة.
ومن الأهمية بمكان أن نتذكر أن تيري جونز له سوابق عديدة في استفزاز المسلمين وتحريض المسيحيين المسالمين على نفض رداء المعايشة والدخول في أتون الصدام ضد المسلمين، فقد كتب في العام الماضي العديد من اللافتات التي تقول ''الإسلام من عند الشيطان''، ولكن أحدا لم يلتفت لمثل هذه الشعارات التافهة مثلما اتسع نطاق الاهتمام بإعلانه عن إحراق نسخ من المصحف الشريف.
ويقول بعض المحللين إن تحرك تيري جونز جاء نتيجة لتحريض سياسي من بعض الدوائر التي تعارض بناء مركز إسلامي قرب موقع الصفر الذي كان يضم برجي 11 من أيلول (سبتمبر) عام 2001، بدعوى أن التراجع عن الفكرة في حاجة إلى صخب سياسي وإثارة غبار فتنة، حتى يتدخل صانع القرار وقائيا بإلغاء المشروع.
ويتمتع تيري جونز بنصوص التعديل الأول الذي ينص على إعطاء جميع المواطنين حرية التعبير، وقد حكمت المحكمة العليا مرارا أن الأحاديث التي تسيء أو تضايق الآخرين مهما كان عددهم لا يمكن قمعها أو منعها من جانب الحكومة إلا إذا كانت موجهة للتخويف أو بلغت حد التحريض المباشر على العنف. والمعروف أن إدارة مكافحة الحريق في فلوريدا رفضت منح جونز تصريحا بإجراء حريق، ولكنه أُبلغ بأن بإمكانه حرق نسخ من المصحف الشريف دون إذن أو بإذن!
ومن حسن الحظ أن صوت العقل بدأ يسود ليُسْكِت المتشنجين، فقد أصدر مكتب المدعي العام إريك هولدر بيانا بعد اجتماع مع زعماء دينيين لمناقشة الاعتداء على مساجد المسلمين في الولايات المتحدة قال فيه إن عمليات الإحراق تتسم بالغباء وتنطوي على خطر بالغ.
الطريف أن جونز برر سلوكه الشائن بأن القرآن يحتوي على مواد تتعارض مع ما ورد في الإنجيل ويحض على السلوك العنيف بين المسلمين. ويرجع ذلك إلى أن جونز ينتمي إلى كنيسة مستقلة تسمى البنتكوستال Pentecostal التي تنسب إليها فكرة ''أن الروح القدس يمكن أن تظهر في عالمنا اليوم''. ويرى أتباع هذه الكنيسة أنهم في حالة حرب مع مخالفيهم. لذلك يتهم جونز الكنائس الأخرى بالجبن، لأنها لا تمضي على هواه في الوقت الذي ثارت عليه كل الدول الإسلامية، واضطر إلى الانسحاب أمام العاصفة. [ الاقتصادية

========================